فصل: مطلب إرث النساء والقسم من الزوجات وجواز الفداء والعداء والظلم والعدل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال علي كرم اللّه وجهه ما في القرآن آية أحب إلي من هذه {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا (116)} إذا مات على شركه والضلال البعيد يقابله عذاب غليظ.
قال ابن عباس: جاء شيخ من الأعراب فقال يا نبي اللّه إني منهمك بالذنوب غير أني لم أشرك باللّه منذ عرفته، وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أواقع المعاصي جرأة على اللّه، وما توهمت طرفة عين أني أعجز اللّه هربا، وإني لقادم تائب مستغفر فما حالي عند اللّه؟ فأنزل اللّه هذه الآية.
ولا ينافي هذا ما نحن بصدده إذ لا مانع من تعدد الأسباب، لأن الآية الواحدة قد تنزل لأسباب كثيرة، وقد يذكرها حضرة الرسول لمناسبة حادثة تنطبق عليها، وهذا لا يعني أنها نزلت ثانيا كما قاله بعض المفسرين، راجع تفسير الفاتحة تعلم أنه لا يوجد في القرآن سورة أو آية نزلت مرتين، وكان صلّى اللّه عليه وسلم- كما جرت على ذلك أصحابه وأتباعه حتى الآن- عند وقوع قضايا كهذه يتلو الآية المناسبة بالمقام المطابقة له، فيظنها من يسمعها منه أو يحضر الحادثة أنها نزلت في تلك وليس كذلك، ولهذا ترى المفسرين يعددون أسبابا كثيرة للنزول ولا يقطعون بواحد منها، والأجدر أن يكون سبب النزول للحادثة والواقعة فقط، ثم تكون جوابا لغيرها مما يماثلها، وقد توخيت في هذا الباب أقصى ما بالوسع، كما بذلت غاية الجهد في باب الناسخ والمنسوخ، واللّه الموفق ومنه الهداية وعليه الاعتماد وإليه المرجع ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
وهذا الشيخ المار ذكره كان لسان حاله يقول نظر اللّه إليه:
وما كانت ذنوبي عن عناد ** ولكن بالشقا حكم القضاء

قال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي الإله العظيم أي ما يعبدون غيره، لأن كل من عبد شيئا فقد دعاه لحاجته.
والمراد بهم أهل مكة الذين رجع إلى دينهم طعيمة المذكور {إِلَّا إِناثًا} كاللات والعزى ومناة {وَإِنْ يَدْعُونَ} أي وما يدعون {إِلَّا شَيْطانًا مَرِيدًا (117)} خارجا عن الطاعة قد أغواهم على عبادة الأوثان.
والمارد والمريد هو المتمرد العاتي الخارج عن الطاعة ويعبدون ويدعون بمعنى واحد، راجع الآية 50 من سورة مريم {لَعَنَهُ اللَّهُ} أي ذلك الملعون {وَقالَ} عدا تحريض الناس على الضلال {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ} يا إله الكل {نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)} معلوما وأقسم الخبيث أيضا فقال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} عن طريق الهدى الذي أمرتهم باتباعه وأرسلت لهم الرسل لإرشادهم إليه {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} الأماني الباطلة بطول العمر وكثرة المال والأولاد والآمال الفارغة والتسويف بالتوبة {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ} يقطعن {آذانَ الْأَنْعامِ} ففعلوها ولا زال الناس يقطعون الآذان ويبترون الأذناب ويسوفون ويؤملون ويتمنون ما لا يكون اتباعا لإغواء الملعون الذي برّ بقسمه راجع الآية 20 من سورة سبأ ج2، ولم تكرر هذه اللفظة في القرآن كله {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} من حيث الصورة الظاهرة كالخصاء والوشم، أو الصفة كنتف الشعر ويسمى التنميص، والوشم وهو تحديد الأسنان وتدقيقها، ووصل الشعر وصبغه وكيه، والتخنث كحلق الشارب واللحية تشبها بالنساء، ودهن الوجه بما يغير لون بشرته بالكلية، وكل هذه العادات القبيحة سارية بازدياد لكل ما فيه تبديل الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها، وقال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} الآية 3 من سورة الروم ج2، وهي مكررة في الأنعام وغيرها أي أن هؤلاء المتبعين لوساوس الشيطان مهما عملوا من التغير للخلقة الأصلية لا يقدرون على تغييرها حقيقة، وإنما عملهم ذلك عبارة عن تبدلات ظاهرية موقتة بالصورة والصفة والهيئة فقط، لا تزيد على شهر ثم ترجع على حالتها الأولى، ثم يحددون ذلك دواليك، وذلك لأنهم اتخذوا الشيطان قدوة لهم فيما يزين لهم ويموه عليهم {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا} فيصغي لوساوسه ويطيعه {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا (119)} في الدنيا والآخرة {يَعِدُهُمْ} الخبيث كذبا {وَيُمَنِّيهِمْ} بدسائسه ما لا ينالونه، وهذا كل أمانيه باطلة لأنها عبارة عن وعود خلابة لعقولهم: {وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُورًا (120)} في الدنيا، لأنه لا يقدر على إنجاز ما وعدهم فيها {أُولئِكَ} المتخذون الشيطان وليا لهم، يكون {مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصًا (121)} مفرا ولا معدلا.
ولما ذكر اللّه تعالى وعيد الكافرين ناسب أن يعقبه بوعد المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} لا أحد البنة وهو الآمر بالصدق الذي أرسل رسوله بالصدق.
وأنزل كتابه بالصدق وأمر عباده بالصدق فياويل الكاذبين.
واعلم أن هؤلاء الذين وعدهم اللّه بالجنة وأولئك الذين أوعدهم بالنار {لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ} أي ما تقدرونه بالكذب أيها المشركون الظانون أن الأصنام تشفع لكم وأن الملائكة تقيكم من عذاب اللّه تعالى، {وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ} الزاعمين أنهم لا يعذبون إلا أياما معدودات، وأنهم أبناء اللّه وأحباؤه، وأن الجنة لا يدخلها غيرهم كذبا، لأن أعمالهم سيئة لا تؤهلهم لدخولها، قبيحة تبعدهم عنها، وإن رسلنا موسى وعيسى سيتبرءون من أعمالهم لمخالفتهم تعاليمها ووصاياهم وما ركبوه من أعمال سيئة.
وقال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} بحسبه {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123)} وهذه الآية عامة وإن كانت واردة بمعرض من ذكر فيدخل في عمومها كل من يقترف السوء ويموت مصرا عليه، وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} عام أيضا يشمل كل عامل خيرا إذا مات عليه فاختاروا أيها الناس أي الأمرين تريدون ولما سمع أهل الكتاب ظاهر الآية الأولى قالوا نحن وأنتم سواء، لأن غير المؤمن لا ينفعه عمله الصالح في الآخرة بل يكافيه عليه بالدنيا، فأنزل اللّه هذه الآية بإثبات لفظ المؤمن {فَأُولئِكَ} فاعلو الصلاح وهم مؤمنون {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} بما أسلفوه من العمل الصالح وبفضل اللّه {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} فلا ينقص ثوابهم بقدر النقرة التي بظهر النواة ولا أقل منها، وهذه الكلمة تجيء مجيء ضرب المثل بعدم النقص بتاتا قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} وهذا أحد الأمرين المبني عليهما الإسلام وهما الاعتقاد المذكور في صدر الآية والعمل المشار إليه بقوله في عجزها {وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا} وذلك لأن شريعته داخلة في شريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلم {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (125)} صفيا، كما اتخذ محمدا حبيبا.
روى مسلم عن أنس قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا خير البرية، فقال صلى اللّه عليه وسلم ذلك ابراهيم خليل اللّه.
وهذا تواضعا منه صلّى اللّه عليه وسلم وهضما لنفسه، وإلا فهو لا شك خير البرية على الإطلاق {وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)} فكل شيء تحت قبضته.
وإنما قال محيطا لأنه جل شأنه لما دعا عباده في الآيات المتقدمة إلى طاعته بين لهم في هذه سعة ملكه ترغيبا لخلقه.

.مطلب إرث النساء والقسم من الزوجات وجواز الفداء والعداء والظلم والعدل:

قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ} هذا عود على بدء لأنه عليه السلام سئل عن أحكام كثيرة تتعلق بالنساء منها ما بين أول السورة ومنها ما بين هنا وفي سورة الممتحنة والبقرة المارتين، ومنها ما سيبين آخر هذه السورة وفي سورة المجادلة والطلاق والنور الآتيات، التي ما بعدها بيان.
فيا سيد الرسل {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} أي يبين لكم حكمه فيهن.
والإفتاء إظهار المشكل على السائل {وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ} الذي أنزله إليكم فيفتيكم به.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال كانوا لا يورثون إلا الرجل البالغ لأن الصغار والنساء لا يغزون ولا يفتحون، ولما نزلت آية المواريث عدد 7 المتقدمة شق عليهم حكمها ورجوا أن ينزل عليهم حكما آخر من السماء بما يريدون، فأنزل اللّه هذه الآية جوابا لهم.
وإن ما تلي عليهم كله ثابت في كتاب اللّه ويفتيهم بأن يعملوا بمقتضاه، وآثر ذكر المضارع على الماضي فلم يقل ما تلاه للايذان بدوام التلاوة واستمرارها والعمل بها إلى الأبد أي ويفتيكم أيها الناس عدا ما أفتاكم به أولا {فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ} في كتاب اللّه من الإرث {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} دون صداق {وَ} يفتيكم أيضا في {الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ} الصغار الذين لا تورثونهم أن تورثوهم كما مر {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ} بأن تعطوا كلا حقه من صداق وارث حسبما بيناه لكم سابقا لأن هذه الأحكام المتلوة عليكم قد أفتيناكم بها على ما هو ثابت في علمنا الأزلي ومدون في اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير على كر الأيام والعصور.
وفي هذا الخطاب حث قوي للأولياء والأوصياء وولاة الأمور على أن يستوفى للنساء القاصرين حقوقهم كاملة كما أمر اللّه، وأن ينصفوهم فيما فرض لهم اللّه بالعدل {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} في حقوقهم حسبما أمرتم به {فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيمًا (127)} قبل أن تفعلوه وهو مجازيكم عليه خيرا.
والآية مطلقة في كل أعمال الخير ويندرج فيها ما يتعلق بهؤلاء اندراجا أوليا.
قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزًا أَوْ إِعْراضًا} عنها وصار لا يكلمها ولا يؤانسها ولا ينظر إليها لكبر سنها أو لبشاعة خلقها أو دمامة خلقها أو بذاءة لسانها وكراهة لونها أو لقصور منها كذكر زوجها الأول أو لما طبعت عليه من السوء أو لطلاقة لسانها أو لكراهتها أقاربه أو لقصور منه بأن طمح لغيرها أو كلفها بأن تأتي له من مال أهلها أو ميراثها أو غير ذلك {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحًا} هما أو أولياؤهما أو الحاكم عفوا دون شيء ما ويتراجعا لحالتهما الأولى قبل النزاع، وإن لم يمكن فيتخالصا دون شيء، أو بأن ترد له شيئا من المهر إن كان القصور منها ولم تسمح نفسه بتركه لها ويطلقها أو تجعله في حل من القسم وتبقى عنده، وهو أولى من الفراق لأنه لا مذمة فيه ولا ندم، والفراق بيدهما متى ما أراده فعلاه إذا لم تنم المودة بينهما ولهذا قال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} لأنه يكون عن طيب نفس كان سعد بن الربيع ويقال له واقع بن خديج تزوج عمرة بنت محمد بن مسلمة وتسمى خولة فلما كبرت تزوج عليها شابة آثرها عليها فشكت أمرها إلى الرسول فنزلت هذه الآية وكذلك كان رجل له امرأة كبيرة ولها أولاد قالت لزوجها لا تطلقني واقسم لي كل شهر إن شئت وأنفق على أولادي فقال هذا أحب إلي إن كان جائزا، فأتيا رسول اللّه وذكرا له ذلك، فتلا عليهما هذه الآية.
وأمثالهما كثير ولاسيما في بداية الإسلام.
روى البخاري ومسلم عن عائشة أن هذه الآية نزلت في ذلك.
وإنما يجوز للزوج في هذه الصورة أخذ شيء من الزوجة عند خوف النشوز منه، أما إذا تحقق صدوره منه فقط، دون أي قصور منها، فلا يجوز له أخذ شيء منها أبدا، راجع الآيتين 34، 35 المارتين.
وعلى هذا العمل الآن وحتى قيام الساعة لا تبديل لحكم اللّه البتة.
قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} لازمته بحيث لا تنفك عنه ولا يغيب عنها فالمرأة لا تكاد تسمح نفسها بإعطاء شيء من المهر وترك حقها من القسم، والرجل لا تسمح نفسه أن يطلقها بلا شيء ولا يرغب بإعطائها حقها كاملا من القسم، والنفس مطبوعة على ما تحب، وكل يود ما تميل له نفسه.
لذلك حث اللّه تعالى على مخالفة النفس ومتابعة الشرع، فقال جل قوله: {وَإِنْ تُحْسِنُوا} أيها الأزواج فيما بينكم وتتلاءموا بالحسنى {وَتَتَّقُوا} ربكم أيها الأزواج فترجعوا عن النشوز والإعراض فإنهن أمانة اللّه عندكم، وقد أمركم بحفظ الأمانة، ووصاكم رسوله بالنساء بعد وصية اللّه فيهن، راجع الآيتين 32، 33 المارتين ولهذا فإياكم أن تجوروا عليهن بعد أن ضيعن شبابهن عندكم، وإلا فاتركوهن ولا تأخذوا منهن شيئا، وراقبوا اللّه وتفكروا في قوله، {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ} الآية 20 المارة {فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)} لا يخفى عليه ما في نياتكم، كما هو عالم بأقوالكم وأفعالكم.
واعلموا أنه مجازيكم على ذلك، فاتقوا اللّه وأنصفوا.